الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
نسأل: ماذا أفادت {أَلاَ} هنا، والمعنى يصح بدونها؟ {ألا} لها معنى عند العربي؛ لأنها تنبهه إنْ كان غافلًا حتى لا يفوته شيء من كلام مُحدِّثه، حينما يُفَاجأ به، كما تنادي أنت الآن مَنْ لا تعرفه فتقول: اسمع يا كأنك تقول له: تنبه لأنني سأكلمك.والتنبيه جاء في اللغة من أن المتكلم يتكلَّم برغبته في أي وقت، أما السامع فقد يكون غافلًا غير مُنتبه، أو ليس عند استعداد لأنْ يسمعَ، فيحتاج لمن يُنبِّهه ليفهم ما يُقال له، إنما لو فاجأتَه بالمراد، فربما فاته منه شيء قبل أنْ يتنبه لك.وكذلك في {الم} حروف للتنبيه، على أنه سيأتي كلام نفيس اسمعه جيدًا، إياك أنْ يضيع منك حرف واحد منه. كما يصح أنْ يكون لهذه الحروف معانٍ أخرى، يفهمها غيرنا ممَّنْ فتح الله عليهم. فهي- إذن- معين لا ينضب، يأخذ منه كُلٌّ على قَدْره.ثم يقول الحق سبحانه: {أَحَسِبَ الناس أَن}.الفعل حسِب بالكسر في الماضي، وبالفتح في المضارع يحسَب يعني: ظن. أما حسَب والمضارع يحسِب بالكسر أي: عَدَّ.فالمعنى: {أَحَسِبَ الناس} [العنكبوت: 2] أي: ظنوا. والهمزة للاستفهام، وهي تفيد نفي هذه الظن وإنكاره، لأنهم حَسِبوا وظنوا أنْ يتركهم الله دون فتنة وتمحيص واختبار.والحق سبحانه يريد أن يحمل أولوا العزم رسالة الإسلام؛ لأن الإسلام لا يتصدَّى لحمل دعوته إلا أقوياءُ الإيمان الذين يقدرون على حمل مشاق الدعوة وأمانة تبليغها.والإيمان ليس كلمة تُقال، إنما مسئولية كبرى، هذه المسئولية هي التي منعتْ كفار مكة أنْ يؤمنوا؛ لأنهم يعلمون أن كلمة لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة وإلا لَقَالوها، إنما هي منهج حياة له متطلبات. إنها تعني: لا مُطَاعَ إلا الله، ولا معبود بحقٍّ إلا الله، وهم لا يريدون هذه المسألة لتظل لهم مكانتهم وسلطتهم الزمنية.لذلك يقول سبحانه هنا: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا} [العنكبوت: 2] فالإيمان ليس قَوْلًا فحسب؛ لأن القول قد يكون صِدْقًا، وقد يكون كذبًا، فلابد بعد القول من الاختبار وتمحيص الإيمان {وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] فإنْ صبر على الابتلاءات وعلى المحن فهو صادق الإيمان.ويؤكد سبحانه هذا المعنى في آية أخرى: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ خَسِرَ الدنيا والأخرة} [الحج: 11].وقد محَّص الله السابقين الأولين من المؤمنين بآيات وخوارق تخالف الناموس الكوني، فكان المؤمن يُصدِّق بها، ويؤمن بصِدْق الرسول الذي جاء بها، أما المتردد المتحيِّر فيُكذِّب بها، ويراها غير معقولة.ومن ذلك ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر في حادثة الإسراء والمعراج، فلمَّا حدَّثوه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنْ كان قال فقد صدق في حين ارتد البعض وكذَّبوا، وكأن الحق تبارك وتعالى يريد من هذه الخوارق، التي يقف أمامها العقل- أنْ يُميِّز بين الناس ليحمل أمر الدعوة أشداءُ الإيمان والعقيدة، ومَنْ لديهم يقين بصِدْق الرسول في البلاغ عن ربه.وسبق أنْ بيّنا غباء مَنْ كَذَّب بحادثة الإسراء والمعراج من كفار مكة الذين قالوا لرسول الله: أتدَّعي أنك أتيت بيت المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرًا؟ وأنهم غفلوا أو تغافلوا عن نص الآية: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] فلم يقل محمد: إني سريت بنفسي إنما أُسْري بي.وقلنا للرد عليهم: لو جاءك رجل يقول لك: لقد صعدتُ بولدي الرضيع قمة إفرست مثلًا، أتقول له: كيف يصعد الرضيع قمة إفرست؟وسبق أنْ تكلَّمنا في قضية ينبغي أن تظل في أذهانكم جميعًا، وهي أن كل فعل يأخذ نصيبه من الزمن على قَدْر قوة فاعله، فالوزن الذي ينقله الطفل الصغير في عدة مرات تحمله أنت في يد واحدة.فالزمن يتناسب مع القوة تناسبًا عكسيًا فكلما زادت القوة قلَّ الزمن، فالذي يذهب مثلًا إلى الأسكندرية على حمار غير الذي يذهب في سيارة أو على مَتْن طائرة. وهكذا.إذن: قِسْ على قدر قوة الفاعل، فإنْ كان الإسراء بقوة الله تعالى، وهي قوة القوى فلا زمن، وهذه مسألة يقف عندها العقل، ولا يقبلها إلا بالإيمان.إذن: فالحق سبحانه يُمحِّصكم ويبتليكم؛ لأنه يريدكم لمهمة عظيمة، لا يصلح لها إلا الصنديد القوي في إيمانه ويقينه.لذلك يقول سبحانه في أكثر من موضع: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات وَبَشِّرِ الصابرين} [البقرة: 155].وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُوا مِنكُمْ} [آل عمران: 142].فهذه الابتلاءات كالامتحان الذي نُجريه للتلاميذ لنعرف مقدرة كل منهم، والمهمة التي يصلح للقيام بها، ومعلوم أن الابتلاءات لا تُذَمُّ لذاتها، إنما لنتائجها المترتبة عليها، فما جُعِلَتْ الابتلاءات إلا لمعرفة النتائج، وتمييز الأصلح للمهمة التي نُدِب إليها.ومعنى {يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] يُخْتبرون. مأخوذة من فتنة الذهب، حين نصهره في النار؛ لنُخِرج ما فيه من خَبَث، ونُصفِّي معدنه الأصلح، فيما يناسب مهمته.ومن ذلك ما ضربه الله لنا مثلًا للحق وللباطل في قوله تعالى: {أَنَزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17].فالفتنة ما كانت إلا لنعرف الصادق من القَوْلة الإيمانية والكاذب فيها: الصادق سيصبر ويتحمل، والكاذب سينكر ويتردد.ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ}.الحق- سبحانه وتعالى- يُسلِّي السابقين من أمة محمد الذين عُذِّبوا وأوذوا، وضُرِبوا بالسياط تحت حَرِّ الشمس، ووُضِعت الحجارة الثقال على بطونهم، والذين جاعوا حتى أكلوا الميتة وأوراق الشجرة يُسلِّيهم: لَسْتم بدعًا في هذه الابتلاءات فاصمدوا لها كما صمد السابقون من المؤمنين.{وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] فانظر مثلًا إلى ابتلاء بني إسرائيل مع فرعون، إذن فابتلاؤكم أهونِ وأخفّ، وفيه رحمة من الله بكم وأنتم أيسر منهم {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 3].ولك أن تقول: ألم يكُن الله تعالى يعلم حقيقتهم قبل أنْ يبتليهم؟ بلى، يعلم سبحانه حقيقةَ عباده، وليس الهدف من اختبارهم العلم بحقيقتهم، إنما الهدف أنْ يُقر العبد بما عُلِم عنه.ومثال ذلك- ولله المثل الأعلى- حينما نقول للمدرس مثلًا: اعْطنا نتيجة هؤلاء التلاميذ، فليس في الوقت سعة للامتحان فيقول من واقع خبرته بهم: هذا ناجح، وهذا راسب، وهذا الأول، وهذا كذا. عندها يقوم الراسب ويقول: لو اختبرتني لكنت ناجحًا، ولو اختبره معلِّمه لرسب فعلًا. إذن: فربنا عز وجل يختبر عباده ليُقر كل منهم بما عُلم عنه.{فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 3] عِلْم ظهور وإقرار من صاحب الشأن نفسه، بحيث لا يستطيع إنكارًا، حيث سيشهد هو على نفسه حين تشهد عليه جوارحه.{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)}.هنا أيضًا {حَسِبَ} [العنكبوت: 4] أي: ظن الذين يعملون السيئات {أَن يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4] أي: يُفلتوا من عقابنا، تقول: سبق فلان فلانًا يعني: أفلت منه وهو يطارده، فالمعنى أنهم لن يستطيعوا الإفلات من العذاب أو الهرب منه، وإنْ كانوا يعتقدون ذلك أو يظنونه، فبئس هذا الظن.{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 4] أي: قَبُح حكمهم وبَطُل، وحين نحكم على ظنهم وعلى حكمهم بالبطلان فإنما نثبت قضيتنا، وهي أنهم لن يُفْلِتوا من عقابنا. اهـ.
|